X

من تراثنا العربي ,, جابر عثرات الكرام

المنتدى العام

 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts
  • أنيس
    Thread Author
    VIP
    • Sep 2018 
    • 1283 
    • 585 
    • 1,001 

    قيل: كان في أيام سليمان بن عبد الملك رجل يقال له خزيمة بن بشر من بني أسد ، كان له مروءة ظاهرة ونعمة حسنة وفضل وبر بالإخوان ، فلم يزل على تلك الحالة حتى قعد به الدهر فاحتاج إلى إخوانه الذين كان يتفضل عليهم وكان يؤاسيهم، فواسوه ثم ملوه ، فلما لاح له تغيرهم أتى امرأته وكانت ابنة عمه ، فقال لها :

    يا ابنة عمي ، قد رأيت من إخواني تغيراً ، وقد عزمت على أن ألزم بيتي إلى أن يأتيني الموت ، فأغلق بابه وأقام يتقوت بما عنده حتى نفد وبقي حائراً .

    وكان يعرفه عكرمة الفياض الربعي متولي الجزيرة ، وإنما سمي بالفياض لأجل كرمه ،

    فبينما هو في مجلسه إذ ذكر خزيمة بن بشر فقال عكرمة الفياض: ما حاله؟

    فقالوا: قد صار إلى أمر لا يوصف وإنه أغلق بابه ولزم بيته.

    قال: أما وجد خزيمة بن بشر مواسياً ولا مكافئاً؟ فقالوا: لا.

    فأمسك عن الكلام ثم لما كان الليل عمد إلى أربعة آلاف دينار فجعلها في كيس واحد ثم أمر بإسراج دابته وخرج سراً من أهله. فركب ومعه غلام من غلمانه يحمل المال . ثم سار حتى وقف بباب خزيمة فأخذ الكيس من الغلام ، ثم أبعده عنه وتقدم إلى الباب فدفعه بنفسه فخرج إليه خزيمة فناوله الكيس ،

    وقال: أصلح بهذا شأنك ، فتناوله فرآه ثقيلاً فوضعه عن يده ثم أمسك بلجام الدابة، وقال له: من أنت؟ جعلت فداك.

    فقال له عكرمة: يا هذا ما جئتك في هذا الوقت والساعة أريد أن تعرفني؟

    قال: فما أقبله إلا أن عرفتني من أنت؟ فقال: أنا جابر عثرات الكرام.

    قال: زدني .قال : لا .

    ثم مضى ودخل خزيمة بالكيس إلى ابنة عمه ، فقال لها :

    أبشري فقد أتى الله بالفرج والخير ولو كانت فلوساً فهي كثيرة . قومي فاسرجي .

    قالت: لا سبيل إلى السراج.

    فبات يلمسها بيده فيجد خشونة الدنانير ولا يصدق ، وأما عكرمة فإنه رجع إلى منزله فوجد امرأته قد فقدته وسألت عنه فأخبرت بركوبه فأنكرت ذلك وارتابت . وقالت له :

    والي الجزيرة يخرج بعد هدو من الليل منفرداً من غلمانه في سر من أهله إلا إلى زوجة أو سرية .

    فقال : اعلمي أني ما خرجت في واحدة منها.

    قالت: فخبرني فيما خرجت؟

    قال: يا هذه ما خرجت في هذا الوقت وأنا أريد أن يعلم بي أحد.

    قالت : لا بد أن تخبرني؟ قال : تكتمينه إذاً.

    قالت: فإني أفعل.

    فأخبرها بالقصة على وجهها وما كان من قوله ورده عليه. ثم قال أتحبين أن أحلف لك أيضاً؟

    قالت : لا فإن قلبي قد سكن وركن إلى ما ذكرت.

    وأما خزيمة فلما أصبح صالح الغرماء وأصلح ما كان من حاله ثم إنه تجهز يريد سليمان بن عبد الملك ، وكان نازلاً يومئذ بفلسطين ، فلما وقف ببابه واستأذن دخل الحاجب فأخبره بمكانه ، وكان مشهوراً بمروءته وكرمه . وكان سليمان عارفاً به فأذن له ، فلما دخل سلم عليه بالخلافة فقال له سليمان بن عبد الملك: يا خزيمة ، ما أبطأك عنا؟.

    قال: سوء الحال.

    قال: فما منعك من النهضة إلينا؟

    قال: ضعفي يا أمير المؤمنين.

    قال: فبم نهضت إلينا الآن؟.

    قال : لم أعلم يا أمير المؤمنين إلا أني بعد هدو من الليل لم أشعر إلا ورجل يطرق الباب وكان من أمره كيت وكيت ، وأخبره بقصته من أولها إلى آخره .

    فقال سليمان : هل تعرف هذا الرجل؟.

    فقال: خزيمة : ما عرفته يا أمير المؤمنين لأنه كان متنكراً وما سمعت من لفظه إلا إني جابر عثرات الكرام .

    قال : فتلهب وتلهف سليمان بن عبد الملك على معرفته وقال : لو عرفناه لكافأناه على مروءته ، ثم قال: علي بقناة .

    فأتى بها فعقد لخزيمة بن بشر المذكور على الجزيرة عاملاً عوضاً عن عكرمة الفياض . فخرج خزيمة طالباً الجزيرة ، فلما قرب منها خرج عكرمة وأهل البلد للقائه ، فسلما على بعضهما ثم سارا جميعاً إلى أن دخلا البلد . فنزل خزيمة في دار الإمارة وأمر أن يؤخذ لعكرمة كفيل وأن يحاسب ، فحوسب فوجد عليه فضول أموالٍ كثيرة فطالبه بأدائها قال : ما لي إلى شيء من ذلك سبيل.

    قال: لا بد منها.

    قال: ليس عندي فاصنع ما أنت صانع .

    فأمر به إلى الحبس ثم أنفذ إليه من يطالبه فأرسل يقول : إني لست ممن يصون ماله بعرضه فاصنع ما شئت .

    فأمر أن يكبل بالحديد فأقام شهراً كذلك أو أكثر فأضناه ذلك وأضر به ، وبلغ ابنة عمه خبره فجذعت واغتمت لذلك ثم دعت مولاة لها ، وكانت ذات عقل ومعرفة ، وقالت لها :

    امض الساعة إلى باب هذا الأمير خزيمة بن بشر وقولي: عندي نصيحة، فإذا طلبت منك فقولي: لا أقولها إلا للأمير خزيمة بن بشر ، فإذا دخلت عليه فسليه أن يخليك ، فإذا فعل ذلك فقولي: ما كان هذا جزاء جابر عثرات الكرام منك . كافأته بالحبس والضيق والحديد .

    ففعلت الجارية ذلك . فلما سمع خزيمة كلامها نادى برفيع صوته وا سوأتاه ، وإنه لهو؟

    قالت: نعم، فأمر لوقته بدابته فأسرجت وبعث إلى وجوه أهل البلد فجمعهم إليه وأتى بهم إلى باب الحبس ففتح ودخل خزيمة ومن معه فرآه قاعداً في قاعة الحبس متغيراً أضناه الضر والألم وثقل القيود فلما نظر إليه عكرمة والى الناس أحشمه ذلك فنكس رأسه فأقبل خزيمة حتى أكب على رأسه فقبله فرفع عكرمة إليه رأسه وقال : ما أعقب هذا منك؟. قال : كريم فعالك وسوء مكافأتي.

    قال: يغفر الله لنا ولك.

    ثم أتي بالحداد ففك القيود عنه وأمر خزيمة أن توضع القيود في رجل نفسه.

    فقال عكرمة : ماذا تريد.؟ فقال: أريد أن ينالني من الضر مثل ما نالك.

    فقال: أقسم عليك بالله لا تفعل.

    فخرجا جميعاً حتى وصلا إلى دار خزيمة فودعه عكرمة وأراد الانصراف عنه. فقال: ما أنت ببارح.

    قال: وما تريد؟ قال: أغير حالك وإن حيائي من بنت عمك أشد من حيائي منك.

    ثم أمر بالحمام فأخلي ودخلاه معاً فقام خزيمة وتولى أمره وخدمه بنفسه ثم خرجا فخلع عليه وحمله وحمل معه مالاً كثيراً ثم سار معه إلى داره واستأذنه في الاعتذار إلى ابنة عمه ، فاعتذر إليها وتذمم من ذلك .

    قال : ثم سأله بعد ذلك أن يسير معه إلى سليمان بن عبد الملك ، وهو يومئذ مقيم بالرملة ، فأنعم له بذلك وسارا جميعاً حتى قدما على سليمان بن عبد الملك فدخل الحاجب فأعلمه بقدوم خزيمة بن بشر فراعه ذلك وقال:

    والي الجزيرة يقدم بغير أمرنا؟. ما هذا إلا لحادث عظيم! فلما دخل قال له قبل أن يسلم: ما وراءك يا خزيمة؟ قال: الخير يا أمير المؤمنين.

    قال: فما الذي أقدمك؟. قال : ظفرت بجابر عثرات الكرام ، فأحببت أن أسرك به لما رأيت من تلهفك وتشوقك إلى رؤيته .

    قال : ومن هو؟ قال : عكرمة الفياض؟.

    قال: فأذن له بالدخول .

    فدخل وسلم عليه بالخلافة فرحب به وأدناه من مجلسه وقال : يا عكرمة ما كان خيرك له إلا وبالاً عليك . ثم قال سليمان :

    اكتب حوائجك كلها وما تحتاج إليه في رقعة . ففعل ذلك ، فأمر بقضائها منه ساعته ، وأمر له بعشرة آلاف دينار وسفطين ثياباً ، ثم دعا بقناة وعقد له على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان وقال له :

    أمر خزيمة إليك إن شئت أبقيته وإن شئت عزلته .

    قال بل اردده إلى عمله يا أمير المؤمنين ، ثم انصرفا من عنده جميعاً ولم يزالا عاملين لسليمان مدة خلافته ، والله أعلم .



    وإن في قصصهم لعبرة . ومني جميل الشكر لمن قرأ واعتبر ..



Working...
X