كثيراً ما تنتشر بعض قصص الشعراء بيننا عامة الناس، فنجد أنفسنا كأكبر نقاد الأدب
نعرف قصصاً عن الأمر بهجر الخمر عند امرئ القيس، وحب عنترة العذري وأيضاً حبه المنفلت مع السيف
وجولات الملاكمة بين جرير والفرزدق، والمجون الأعمى لبشار، وقصص أبي نواس التي تقطر خمراً
وفنون أبي تمام في النحت، والسم الحارق لابن الرومي، وعرش المتنبي على مملكة الشعر...
وغيرهم الكثير ممن نجد لهم قصصاً طريفة ومُبهرة نتداولها في جلساتنا
من بين هذه القصص،
قصة عن الشاعر العباسي علي بن الجهم و الخليفة المتوكل
تقول أنه كان بدوياً خشناً، وأنه غادر البادية وذهب إلى عاصمة المدنية والتحضر بغداد.
وهناك دخل على الخليفة المتوكل، وبلا شك بعد تحية بدوية جزلة ألقى عليه قصيدة مدحٍ بدأها بقوله:
أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قِراع الخطوب
أنت كالدلو، لا عدمناك دلواً من كبار الدلا كثير الذنوب
وطبعاً كان من الحتمي أن يختلط الأمر على جلساء الخليفة فظنوا أن هذا الشاعر يسبه ويشتمه
وحين وقفوا لإسكات الشاعر وربما حتى ضربه تملقاً للخليفة منعهم الخليفة من ذلك.
لكن الخليفة المتوكل لا يغضب، ولا تصيبه الدهشة، و إنما يدرك بفطرة و بلاغة الشاعر و نبل مقصده و خشونة لفظه
و تعبيره، و انه لملازمته البادية فقد اتى بهذه التشبيهات و الصور و التراكيب
فلم ير ما يشبهنا به إلا ما تعود رؤيته في البادية فهو شاعر مفلق ينقصه شيء من التحضر
ثم أمر بدار حسنة على شاطئ دجلة فيها بستان بديع ، يتخلله نسيم لطيف يغذي الروح .
وهو قريب من الجسر فيخرج من الدار الى محلات بغداد
فيرى الناس وحركة المدنية والتحضر، كما أمر بلفيف من أهل الأدب يزورونه ويحادثونه
و يُـقيم الشاعر "علي ابن الجهم" مدة من الزمن على هذه الحال، و العلماء يتعهدون مجالسته و محاضراته
ثم يستدعيه الخليفة وهذه المرة ألقى عليه قصيدةً و ينشده الشاعر قصيدة جديدة
فتكون المفاجأة قصيدة من ارق الشعر و اعذبه هي من أشهر بيوت الغزل في اللغة العربية:
القصيدة بعنوان :عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسر
------------------------------------------------------------
عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ............................................جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري أَعَدنَ لِيَ الشَوقَ القَديمَ وَلَم أَكُن.................................................سَلَوتُ وَلكِن زِدنَ جَمراً عَلى جَمرِ سَلِمنَ وَأَسلَمنَ القُلوبَ كَأَنَّما....................................................... تُشَكُّ بِأَطرافِ المُثَقَّفَةِ السُمرِ وَقُلنَ لَنا نَحنُ الأَهِلَّةُ إِنَّما............................................................ تُضيءُ لِمَن يَسري بِلَيلٍ وَلا تَقري فَلا بَذلَ إِلّا ما تَزَوَّدَ ناظِرٌ.......................................................... وَلا وَصلَ إِلّا بِالخَيالِ الَّذي يَسري أحينَ أزحنَ القَلبَ عَن مُستَقَرِّهِ..................................................وَأَلهَبنَ ما بَينَ الجَوانِحِ وَالصَدرِ صددنَ صدودَ الشاربِ الخمر عندما ..................................... روى نفسَهُ عن شربها خيفةَ السكرِ ألا قَبلَ أَن يَبدو المَشيبُ بَدَأنَني...................................................بِيَأسٍ مُبينٍ أَو جَنَحنَ إِلى الغَدرِ فَإِن حُلنَ أَو أَنكَرنَ عَهداً عَهِدنَهُ.................................................فَغَيرُ بَديعٍ لِلغَواني وَلا نُكرِ وَلكِنَّهُ أَودى الشَبابُ وَإِنَّما........................................................... تُصادُ المَها بَينَ الشَبيبَةِ وَالوَفرِ كَفى بِالهَوى شُغلاً وَبِالشَيبِ زاجِراً ....................................... لَوَ اَنَّ الهَوى مِمّا يُنَهنَهُ بِالزَجرِ أَما وَمَشيبٍ راعَهُنَّ لَرُبَّما ......................................................... غَمَزنَ بَناناً بَينَ سَحرٍ إِلى نَحرِ وَبِتنا عَلى رَغمِ الوُشاةِ كَأَنَّنا .................................................... خَليطانِ مِن ماءِ الغَمامَةِ وَالخَمرِ خَليلَيَّ ما أَحلى الهَوى وَأَمَرَّهُ ....................................................وَأَعلَمَني بِالحُلوِ مِنهُ وَبِالمُرِّ بِما بَينَنا مِن حُرمَةٍ هَل رَأَيتُما.................................................. أَرَقَّ مِنَ الشَكوى وَأَقسى مِنَ الهَجرِ وَأَفضَحَ مِن عَينِ المُحِبِّ لِسِرِّهِ ................................................ وَلا سِيَّما إِن أَطلَقَت عَبرَةً تَجري وَما أَنسَ مِ الأَشياءِ لا أَنسَ قَولَها...............................................لِجارَتِها ما أَولَعَ الحُبَّ بِالحُرِّ فَقالَت لَها الأُخرى فَما لِصَديقِنا................................................. مُعَنّىً وَهَل في قَتلِهِ لَكِ مِن عُذرِ عِديهِ لَعَلَّ الوَصلَ يُحييهِ وَاِعلَمي ........................................... بِأَنَّ أَسيرَ الحُبِّ في أَعظَمِ الأَمرِ فَقالَت أَداري الناسَ عَنهُ وَقَلَّما ................................................. يَطيبُ الهَوى إِلّا لِمُنهَتِكِ السِترِ وَأَيقَنَتا أَن قَد سَمِعتُ فَقالَتا ........................................................ مَنِ الطارِقُ المُصغي إِلَينا وَما نَدري فَقُلتُ فَتىً إِن شِئتُما كَتَمَ الهَوى ............................................... وَإِلّا فَخَلّاعُ الأَعنَّةِ وَالعُذرِ عَلى أَنَّهُ يَشكو ظَلوماً وَبُخلَها ................................................ عَلَيهِ بِتَسليمِ البَشاشَةِ وَالبِشرِ فَقالَت هُجينا قُلتُ قَد كانَ بَعضُ ما ....................................... ذَكَرتِ لَعَلَّ الشَرَّ يُدفَعُ بِالشَرِّ فَقالَت كَأَنّي بِالقَوافي سَوائِراً ................................................... يَرِدنَ بِنا مِصراً وَيَصدُرنَ عَن مِصرِ فَقُلتُ أَسَأتِ الظَنَّ بي لَستُ شاعِراً ....................................... وَإِن كانَ أَحياناً يَجيشُ بِهِ صَدري صِلي وَاِسأَلي مَن شِئتِ يُخبِركِ أَنَّني .................................. عَلى كُلِّ حالٍ نِعمَ مُستَودَعُ السِرِّ وَما أَنا مِمَّن سارَ بِالشِعرِ ذِكرُهُ ............................................. وَلكِنَّ أَشعاري يُسَيِّرُها ذِكري وَما الشِعرُ مِمّا أَستَظِلُّ بِظِلِّهِ .................................................. وَلا زادَني قَدراً وَلا حَطَّ مِن قَدري وَلِلشِّعرِ أَتباعٌ كَثيرٌ وَلَم أَكُن ................................................... لَهُ تابِعاً في حالِ عُسرٍ وَلا يُسرِ وَما كُلُّ مَن قادَ الجِيادَ يَسوسُها ............................................. وَلا كُلُّ مَن أَجرى يُقالُ لَهُ مُجري وَلكِنَّ إِحسانَ الخَليفَةِ جَعفَرٍ دَعاني ...................................... إِلى ما قُلتُ فيهِ مِنَ الشِعرِ فَسارَ مَسيرَ الشَمسِ في كُلِّ بَلدَةٍ ..............................................وَهَبَّ هُبوبَ الريحِ في البَرِّ وَالبَحرِ وَلَو جَلَّ عَن شُكرِ الصَنيعَةِ مُنعِمٌ .......................................... لَجَلَّ أَميرُ المُؤمِنينَ عَنِ الشُكرِ فَتىً تَسعَدُ الأَبصارُ في حُرِّ وَجهِهِ ........................................كَما تَسعَدُ الأَيدي بِنائِلِهِ الغَمرِ بِهِ سَلِمَ الإِسلامُ مِن كُلِّ مُلحِدٍ ................................................. وَحَلَّ بِأَهلِ الزَيغِ قاصِمَةُ الظَهرِ إِمامُ هُدىً جَلّى عَنِ الدينِ بَعدَما ........................................... تَعادَت عَلى أَشياعِهِ شِيَعُ الكُفرِ وَفَرَّقَ شَملَ المالِ جودُ يَمينِهِ .............................................. عَلى أَنَّهُ أَبقى لَهُ أَحسَنَ الذِكرِ إِذا ما أَجالَ الرَأيَ أَدرَكَ فِكرُهُ ........................................... غَرائِبَ لَم تَخطُر بِبالٍ وَلا فِكرِ وَلا يَجمَعُ الأَموالَ إِلّا لِبَذلِها ................................................ كَما لا يُساقُ الهَديُ إِلّا إِلى النَحرِ وَما غايَةُ المُثني عَلَيهِ لَو أَنَّهُ ............................................... زُهَيرٌ وَأَعشى وَاِمرُؤُ القَيسِ من حُجرِ إِذا نَحنُ شَبَّهناهُ بِالبَدرِ طالِعاً ............................................... وَبِالشَمسِ قالوا حُقَّ لِلشَمسِ وَالبَدرِ وَمَن قالَ إِنَّ البَحرَ وَالقَطرَ أَشبَها ...................................... نَداهُ فَقَد أَثنى عَلى البَحرِ وَالقَطرِ وَلَو قُرِنَت بِالبَحرِ سَبعَةُ أَبحُرٍ ............................................. لَما بَلَغَت جَدوى أَنامِلِهِ العَشرِ وَإِن ذُكِرَ المَجدُ القَديمُ فَإِنَّما .................................................. يَقُصُّ عَلَينا ما تَنَزَّلَ في الزُبرِ فإن كان أمسى جعفرٌ متوكِّلاً .............................................. على الله في سرِّ الأمورِ وفي الجهرِ وولَّى عهودَ المسلمين ثلاثةً ................................................. يُحَيَّونَ بالتأييد والعزِّ والنصرِ أَغَيرَ كِتابِ اللَهِ تَبغونَ شاهِداً ............................................... لَكُم يا بَني العَبّاسِ بِالمَجدِ وَالفَخرِ كَفاكُم بِأَنَّ اللَهَ فَوَّضَ أَمرَهُ .................................................... إِلَيكُم وَأَوحى أَن أَطيعوا أولي الأَمرِ وَلَم يَسأَلِ الناسَ النَبِيُّ مُحَمَّدٌ ................................................. سِوى وُدِّ ذي القُربى القَريبَةِ مِن أَجرِ وَلَن يُقبَلَ الإيمانُ إِلّا بِحُبِّكُم .................................................. وَهَل يَقبَلُ اللَهُ الصَلاةَ بِلا طُهرِ وَمَن كانَ مَجهولَ المَكانِ فَإِنَّما ........................................... مَنازِلُكُم بَينَ الحَجونِ إِلى الحِجرِ وَما زالَ بَيتُ اللَهِ بَينَ بُيوتِكُم ............................................... تَذُبّونَ عَنهُ بِالمُهَنَّدَةِ البُترِ أَبو نَضلَةٍ عَمرو العُلى وَهوَ هاشِمٌ ............................ أَبوكُم وَهَل في الناسِ أَشرَفُ مِن عَمرو وَساقي الحَجيجِ شَيبَةُ الحَمدِ بَعدَهُ ........................................ أَبو الحارِثِ المُبقي لَكُم غايَةَ الفَخرِ سَقَيتُم وَأَسقَيتُم وَما زالَ فَضلُكُم .......................................... عَلى غَيرِكُم فَضلَ الوَفاءِ عَلى الغَدرِ وُجوهُ بَني العَبّاسِ لِلمُلكِ زينَةٌ ............................................. كَما زينَةُ الأَفلاكِ بِالأَنجُمِ الزُهرِ وَلا يَستَهِلُّ المُلكُ إِلّا بِأَهلِهِ .................................................... وَلا تَرجَعُ الأَيّامُ إِلّا إِلى الشَهرِ وَما ظهر الإسلامُ إِلّا وجاركم ............................................. بني هاشمٍ بين المجرَّةِ والنسرِ فَحَيّوا بَني العَبّاسِ مِنّي تَحِيَّةً ................................................ تَسيرُ عَلى الأَيّامِ طَيِّبَةَ النَشرِ إِذا أُنشدَت زادت وليَّكَ غبطةً ............................................... وكانت لأهل الزيغ قاصمةَ الظهرِ |
ويصيح المتوكل: انظروا كيف تغيرت به الحال، والله خشيت عليه ان يذوب رقة و لطافة.
وفي ابيات اخرى لنفس الشاعر يصف فيها حواراً دار بينه و بين محبوبته:
فقالت له الأخرى: فما لصديقنا مـعـنّى، و هل في قتله لك من عُذرِ
صِـليهِ، لعل الوصل يُـحييهِ، و اعلمي بأن اسير الحُب في اعظم الأسرِ
و ايقـنـتا اني سمعتُ، فقالتا: من الطارقُ المُصغي إلينا ولا ندري
فقلتُ: فتى إن شئتما كتم الهوى وإلا فخناعُ الأعنةِ و العُـذرِ
على انه يشكوا ظلوماً و بُخلها عليهِ بتسليم البشاشةِ و البشرِ
فقالت: هُجينا، قلتُ: قد كان بعض ما ذكرتِ، لعلَ الشرَ يدفعُ بالشرِ
من هو علي بن الجهم
هو علي بن الجهم بن بدر بن مسعود بن أسيد بن أذينة
بن كرار بن بكعب بن مالك بن عتبة بن جابر بن الحارث بن عبد البيت
بن الحارث بن سامة بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة
وكنيته أبو الحسن
وأصله من خراسان، المولود في 188 للهجرة في بغداد
سليلاً لأسرة عربية متحدرة من قريش
مما اكسبه هذا فصاحة اللسان والموهبة الشعرية والقوة والرزانة .
سلك الشاعر الحياة السياسية والدينية وتأثر بها فقد نشأة في زمن يعج بالخلافات السياسية
وانتشار المذاهب المتنوعة في زمن الدولة العباسية
عاصر فترة حكم المأمون والمعتصم والواثق بالله ، ربطته عدة علاقات فكرية مع عدد من رموز العصر
كالإمام أحمد بن حنبل والشاعر أبي تمام واشتهر بانتصاره لمذهب أهل الحديث في أشد الأيام ظلمه على المسلمين
في فترات حكم المعتزلة حتى جاء الخليفة المتوكل وأنهى الحكم المعتزلي
وفاته
أفسد الحُساد بين المتوكل وابن الجهم ولم تغفر للشاعر معلقته وتم مصادرة أمواله وممتلكاته
ودخل إلى سجون خُرسان وتضاعف عليه المصائب
وكتب إلى واليها طاهر بن عبدالله بن طاهر أن يصلبه من الصباح حتى الليل.
ورضي المتوكل عن ابن الجهم فعاد إلى بغداد سنة 240 هـ (855م)
وعاش مُهملاً عيشه لهو وفسق وبعد وفاة المتوكل سنة 247هـ بعامين سار ابن الجهم إلى الاشتراك في غزو الروم
ولكن جماعة من الأعراب من بني كلب خرجوا عليه وعلى من معه لسلب أموالهم وقاتلوهم فجرح ابن الجهم
فحمله أصحابه عائدين إلى بغداد
ولكنه توفي على مرحلة من حلب في موضع يقال له (خُساف) سنة (249هـ) – (863م).
بالنسبة لصحة القصة فهناك الروايات المنقولة في علوم الفقه قد احتوت على أخبار وروايات صحيحة وغير صحيحة
رواية الأصمعي أن علي بن الجهم جاء من البادية وكانت عباراته وألفاظه خشنة
وكأنه نحتها من صخر حتى خاطب بها المتوكل الخليفة العباسي
كتاب ابن خِلِّكان وفَيَات الأعيان لم تذكر الرواية تلك
كتاب الأغاني للاصفهاني أورد قصصًا شتى وروايات عن الشاعر، ولم تكن هذه الرواية بينها.
كتاب المَرْزُباني معجم الشعراء ذكر في ترجمة ابن الجهم ص 44
أنه مدح المعتصم والواثق وجالسهم، ولم يتناول القصة
يقال انه لم يكن من أهل البادية بل هو حضري ولد في بغداد سنة 188هـ - 804م
ثم نشأ يقرأ علوم الفلسفة ويُناظر في الفلسفة وعلم الكلام ويدرس فيها، ويجادل الزنادقة والمعتزلة.
حضري تفوق في الفلسفة وعلم الكلام
وحظي علي بن الجهم في مطلع حياته عند نفرٍ من خلفاء بني العباس
فولاه المعتصم ديوان المظالم في (حُلوان) وهي حُلوان العراق وليس مصر
وكان في هذا المنصب سنة 222هـ (837) ميلادية.. وعظمت منزلة ابن الجهم عند المتوكل
وقد تكون قصيدة (أنت كالتيس) قد قالها في مجلس أدبي أراد أن يمازح المتوكل ليعرف ما يرمي إليه كأحجية
إذن هو حضري ولد في بغداد وكان عالما في الفلسفة وعلم الكلام.
لكن الرواية صحيحة او غير صحيحة فإن الامر محمودٌ لما فيه من جرعات ثقافية
ديوان علي بن الجهم
*
اجمل التحيات لكم